المحامية ابتسام الاسماعيني عدالة أكثر إنصافًا... المسطرة الجنائية المغربية بثوب جديد: إصلاحات جذرية تعيد التوازن بين السلطة والحقوق"

في خطوة تاريخية طال انتظارها، صادق مجلس المستشارين على مشروع إصلاح شامل للمسطرة الجنائية، حاملاً معه نفسًا جديدًا لمنظومة العدالة الجنائية في المغرب. هذه المستجدات، التي تمثل قفزة نوعية نحو ضمان المحاكمة العادلة وتعزيز حقوق الدفاع، جاءت نتيجة تفاعل عميق بين الواقع القضائي والطموح الحقوقي، في مسعى لإعادة رسم ملامح العلاقة بين أجهزة السلطة والضمانات الفردية.
في واحدة من أهم المحطات التشريعية للعدالة المغربية، شهد مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية مصادقة مجلس المستشارين، ليحمل معه مجموعة من المقتضيات الثورية التي تمس جوهر العلاقة بين المواطن، والمحامي، والسلطات القضائية. وقد خصّت هذه التعديلات مجالات حساسة، منها التحقيق والحراسة النظرية، والطعن، والاعتقال الاحتياطي، وآليات الحماية من التعذيب، والصلح، والتجنيح، وصولًا إلى تنظيم العقوبات وتنفيذها.
حضور المحامي وتكريس ضمانات الدفاع:
كرّس النص الجديد الحق في حضور المحامي إلى جانب الأحداث وذوي الاحتياجات الخاصة أثناء الاستماع إليهم من طرف الشرطة القضائية، بعد إذن النيابة العامة، في خطوة تُعزز الحماية لذوي الوضعيات الهشة. كما بات بإمكان المحامي الاتصال بالشخص الموضوع رهن الحراسة النظرية مباشرة بعد الساعة الأولى من توقيفه، ما عدا في قضايا الإرهاب.
التسجيل السمعي البصري للمحاضر:
أصبح من اللازم تسجيل لحظات توقيع أو رفض توقيع المشتبه فيه على محضر الجنايات والجنح المعاقب عليها بخمس سنوات أو أكثر، بالصوت والصورة. المحكمة يحق لها المطالبة بهذه التسجيلات المحفوظة، رغم أن المسودة الأولية كانت تقترح التسجيل الكامل لكل مراحل التحقيق، بغض النظر عن نوع الجريمة.
حق التظلم من قرار الحفظ:
تم توسيع هامش الرقابة على قرارات النيابة العامة، بإقرار إمكانية التظلم من قرار الحفظ أمام درجات أعلى من النيابة، بما في ذلك الطعن أمام الوكيل العام بمحكمة النقض، ما يعزز الشفافية ويوسع رقعة رقابة المتقاضين.
تقليص مدد الاعتقال الاحتياطي:
من أبرز الإصلاحات تقليص مدد تمديد الاعتقال الاحتياطي، بحيث لا تتجاوز في الجنايات مرتين لنفس المدة (أي ستة أشهر)، وفي الجنح مرة واحدة فقط (أي شهرين)، ما يحدّ من التعسف في الاحتفاظ بالمشتبه بهم دون محاكمة.
تعزيز دور المحامي أثناء التحقيق:
نصت التعديلات على حضور المحامي أثناء استنطاق النيابة العامة للمتهم، مع حقه في الإدلاء بالوثائق وطرح الأسئلة وتقديم ملاحظات، مما يعزز مبدأ المواجهة القضائية والتكافؤ بين الأطراف.
إمكانية الطعن في قرارات الإيداع بالسجن:
بات من حق المتهم الطعن في قرار الإيداع بالسجن الصادر عن وكيل الملك أمام هيئة قضائية مكونة من ثلاثة قضاة، أو أمام هيئة الحكم التي ستنظر في القضية، كما أصبح بالإمكان الطعن في قرار الإيداع الصادر عن الوكيل العام أمام غرفة الجنايات الابتدائية، دون أن يؤثر ذلك على الحق في التماس السراح المؤقت لاحقًا.
أحكام مبتكرة لحماية المشتبه فيهم من التعذيب:
من أبرز المستجدات إقرار إلزامية إخضاع المشتبه فيه لفحص طبي من طرف طبيب مؤهل، إذا طلب ذلك المتهم أو دفاعه، وإبطال الاعتراف المدون في محضر الشرطة في حال عدم إجراء هذا الفحص.
التخفيض التلقائي للعقوبة تحت الرقابة القضائية:
تم إحداث آلية جديدة لتخفيض العقوبة تلقائيًا داخل المؤسسات السجنية، تحت إشراف لجنة ثلاثية تضم قاضي تطبيق العقوبات، ممثل النيابة العامة، والمدير الجهوي للسجون، في إطار منظور إصلاحي يروم إعادة الإدماج وتقليص الاكتظاظ.
آليات جديدة للصلح والتجنيح القضائي:
وسع النص الجديد الجرائم القابلة للصلح لتشمل عدداً أكبر من الجنح، كما تم التخلي عن شرط مصادقة القاضي على الصلح، بما يساهم في تخفيف العبء على المحاكم وتقريب العدالة من المواطن. كما تم إقرار “التجنيح القضائي” الذي يسمح بتكييف المتابعة وفق بساطة الضرر أو الحق المعتدى عليه.
تعزيز حقوق الدفاع والإجراءات القضائية:
فرض استدعاء المحامي قبل 15 يومًا من كل استنطاق من طرف قاضي التحقيق.
منحه الحق في نسخ المحاضر وجميع وثائق الملف.
النص على عدم جواز الإدانة بناءً على أقوال متهم ضد متهم آخر إلا في حال وجود قرائن قوية.
الإعدام لا يُحكم به إلا بإجماع أعضاء غرفة الجنايات وتوقيعهم مجتمعين.
إضافة المراقبة الإلكترونية إلى تدابير المراقبة القضائية.
تنظيم جديد للاستئناف والنقض:
تم تنظيم أداء مصاريف الشكاية المباشرة، مع تمكين الطرف المدني من الاستئناف والنقض في الدعوى العمومية، ما يفتح آفاقًا جديدة لتحقيق العدالة المتوازنة بين الادعاء والدفاع.
في الختام...
إن المصادقة على هذه التعديلات لا تمثل مجرد إصلاح تقني، بل تعكس تحوّلًا جوهريًا في فلسفة العدالة المغربية، من منطق العقاب إلى منطق الضمانات، ومن منطق السلطة إلى منطق الحقوق. ويبقى التحدي الآن في تنزيل هذه النصوص على أرض الواقع، وتوفير الوسائل والموارد البشرية اللازمة لضمان عدالة فعالة، سريعة، ومنصفة.